لاشك أن دعم التربية وتقويم المسار بهذا الخصوص حينما يتم في الصغر فإن له اكبرالاثر من خلال تمرير الاعتدال والاتزان في الرؤية وتحديداً في المرحلة الابتدائية والتي تعد اللبنة الأساسية الأولى لاستقاء المفاهيم وترسيخها، والتعليم في الصغر كالنقش في الحجر، وكما ان المدرسة يقع على عاتقها جزء كبير من هذه المسؤولية فإن الأسرة حجر الأساس بهذا الخصوص، عادل واحمد وسيف ثلاثة من الطلبة في الصف الخامس الابتدائي على اختلاف أوضاعهم الاجتماعية وكيف أن بعض الترسبات المتراكمة من العادات والتقاليد تكون في بعض الأحيان مصدر قلق ومنبعاً للتطرف بهذا الخصوص، عادل من عائلة ثرية حيث كل أسباب الرخاء متوفرة بدءاً من السائق وانتهاء بنوعية الملابس الفاخرة التي يقتنيها. أحمد من عائلة متوسطة الحال سيف من عائلة فقيرة حيث توفي والده وهو صغير، وأمه تعمل بائعة متجولة في الأسواق وتعاني أيضاً من بعض الأمراض التي تجعلها في بعض الأحيان حبيسة المنزل وهي تكافح من أجل هذا الصغير وأخته التي تصغره بسنة. كعادة الصغار وشقاوتهم التي تجعلهم في بعض الأحيان يؤذون مشاعر بعضهم البعض كالتهكم والسخرية وما إلى ذلك من مظاهر مؤلمة ومحزنة لقلة إدراكهم بالرغم من حرص المدرسة على المساواة في التعامل، إلا أنه يقع على الأسر أيضاً دور ليس باليسير في تفعيل احترام الإنسان الذي خلقه المولى في احسن تقويم والتحلي بالأخلاق الفاضلة، عادل ابن العائلة الثرية بالرغم من تعاطفه في بعض الأحيان مع سيف إلا أنه في أغلب الأحيان لا يلبث أن (يتفشخر) ويشعر سيف بتميزه وثراء عائلته وأبي اشترى لي اللعبة الفلانية وأمي اشترت لي الجهاز الفلاني، ولا يملك سيف هذا الصغير الفقير إلا الحسرة المرة فينقل هذه الإسقاطات إلى المنزل ويزيد من عناء والدته وشقائها، ومن المفارقات العجيبة ان أحمد والذي يعتبر متوسط الحال أو بالأحرى من عائلة متوسطة يمارس التمييز (والفشخرة) على ابن العائلة الثرية عادل من حيث النسب وكيف أن نسبه يمتد لكذا وهو من قبيلة كذا وكذا، طبعاً أحمد يغار من عادل وكيف أن أهله يوفرون له كل المتطلبات، لذلك كان يمارس هذا النوع من تعويض النقص بالنقص ذاته وشبيه الشيء منجذب اليه، وكما أن الفقر وقلة ذات اليد أسهما في تكريس الإحباط في نفس سيف فإن ابن العائلة الثرية أيضاً يتوالد عنده هذا الشعور من خلال تعليقات أحمد اللاذعة لا سيما في ما يخص التفاخر بنسبه، هذه المساحة الكبيرة من الإحباطات المتلازمة سواء للغني أو الفقير تسهم في إيجاد بيئة خصبة للتطرف ونحوه بل واستثمار هذا الفراغ الوجداني المفتقر إلى العدالة والإنصاف ليصبحوا أدوات يسهل استغلالها والقفز على هذه الظروف واستغلالها لما هو أشد وأخطر، في أحد الأيام لاحظ المرشد الطلابي واسمه سالم أثناء الفسحة أحد الطلاب حزينا ومنزوياً في أحد الأركان سأله عن اسمه وأصدقائه ويلعب مع من ؟ فكانت إجابة سيف وبتلقائية بأن أصدقاءه عادل وأحمد، ولكن أحمد دائماً ما يعاير عادل بنسبه وانه ابن فلان وعادل كذلك يعايره بثرائه، أدرك سالم ان هذا الأمر يسهم في تحطيم النفوس ويجرح الكرامة ويشرخ الكبرياء، فقدم بحثاً لمدير المدرسة يحمل في طياته اقتراحات بناءة لإزالة التعصب والتمييز والتفاخر من خلال تكثيف الوسائل الإعلامية الإرشادية وصحف الحائط وكذلك عرض بعض المواقف والتي تجسد الأخوة والمحبة بينهم من خلال مسرح المدرسة. في أحد الأيام وأثناء خروج الطلبة من المدرسة حدث موقف محزن كان عادل يسير خلف أحمد، وعندما خرجوا من البوابة إذ بإحدى السيارات وكانت مسرعة وكادت تصدم أحمد إلا أن عادل وبسرعة فائقة تقدم ودفعه إلى الأمام ودهست السيارة قدم عادل اليسرى وتم نقله على الفور إلى المستشفى، وهذا يدل على التعاطف الفطري والأخوة رغم ما يحصل بينهما من مناوشات لفظية في بعض الأحيان، إلا أنه عند الشدائد يتضح الحس الإنساني النبيل والمواقف المشرفة وكذلك اثر التربية، والد أحمد علم بالحادث وذهب مساءً مع ابنه للاطمئنان على عادل وشكره على موقفه الشهم، وحضروا إلى المستشفى وكانت قدم عادل قد كسرت نتيجة لهذا الحادث وتم عمل جبيرة. قابل والد أحمد والد عادل وشكره، وقال له إن لك ابناً يحق لك أن تفتخر به كان عادل في سريره وقدمه في الجبس فسلم عليه أحمد وقبله، وهو يعتذر منه ويقول له سامحني يا عادل على الكلام الذي كنت أقوله، فقال عادل وانت ايضا سامحني كلنا أخوان وأصدقاء ونحن مع بعض دائماً، ما هي إلا لحظات إلا وسيف يدخل عليهم حيث إنه قد حدّث والدته بما حصل وأصرت أمه كذلك على زيارة عادل والاطمئنان عليه، سلم سيف على زميليه عادل وأحمد وباتوا قريبين من بعضهم، والدة عادل ووالدة أحمد تعرفتا على بعضهما البعض في استراحة النساء وقدمت عليهما والدة سيف، وتم التعارف بينهن وتجاذبن أطراف الحديث، أم عادل كانت تعرف أن سيف من عائلة فقيرة حيث كان يحكي ابنها دائماً، وعادل شهم كان يخبئ بعض الألعاب في حقيبته ويحضرها ويعطيها سيف، وكانت أمه تعلم بذلك بل وتشجعه على كرم النفس، وكانت أم عادل أيضاً تعلم بأن أم سيف تعمل في بيع البضائع في الأسواق، وسألت أم عادل أم سيف عن أحوالها وسألتها كذلك عما إذا كانت تجيد الخياطة، فقالت أم سيف نعم أجيد الخياطة، فقالت وش رأيك تشتغلين عندنا، عندنا مشغل نسائي كبير وفيه قسم للخياطة النسائية، وفعلاً التحقت أم سيف بالعمل في المشغل، ونشأت علاقة حميمة بين الأسر أسرة عادل وسيف وأحمد. خرج عادل من المستشفى بعد أن قضى عدة أيام في المستشفى، وبدأت العلاقة بين الأصدقاء تأخذ بُعداً أدبياً خلاقاً، فبات الاحترام سمة الجميع في التعامل، والحب الذي يكنه كل للآخر. من جهة أخرى فقد تم تفعيل الإرشادات المكثفة في المدرسة وإزالة آثار التعصب بأساليب حضارية سلسة، وكان البحث الذي قدمه سالم يحتوي على مقترحات جيدة بهذا الخصوص، برعت أم سيف في مجال الخياطة، وكانت أم عادل سعيدة بهذه المرأة الطيبة فزادت راتبها، وفي تطور مفاجئ وفي أحد الأيام مرضت سارة وهي أخت عادل وتكبره بأربع سنوات، وتدرس في المرحلة المتوسطة، هذه البنت الطيبة في كل شهر تدخر من مصروفها مبلغاً من المال وتعطيه أم سيف، وكانت أم سيف تحب هذه البنت حباً شديداً. دخلت سارة المستشفى وكانت حالتها حرجة، وتحتاج إلى زراعة كلية وما أن بلغ الخبر أم سيف حتى بكت بكاء مرا وأقسمت أنها هي التي ستتبرع بالكلية لسارة وفعلاً تمت الفحوصات وتمت زراعة الكلية لسارة، ازداد الترابط الأسري بين العائلتين مما حدا ب(أبوعادل) شراء منزل صغير لأم سيف، فالحب والوئام سواء بين الأسر أو الأطفال يكرس المفاهيم الخيِّرة ويسقي القلوب بالرحمة والود والعطف وانعكاس فهم الأسر للدور المنوط بها في هذا الاتجاه سينسحب على أطفالهم ويزيل من قلوبهم الشحناء والبغضاء ويؤسس للاعتدال بأجمل مآثره وأسمى معانيه.
بعد ثلاث سنوات كان الترابط بين أسرة عادل وسيف مثالاً واقعاً يجسد عمق التلاحم بين أبناء الوطن الواحد، شعرت أم سيف بألم شديد وعلى الفور اتصل سيف بأم عادل يخبرها بذلك وقد حضرت أم عادل مع السائق وذهبوا بها إلى المستشفى، وقرر الطبيب تنويمها في إحدى الغرف حيث إن حالتها حرجة، ونصح الطبيب أم عادل بأن ترى أم سيف قبل أن تذهب، فدخلت أم عادل وسيف وأخته على الأم المريضة، وهي لا تستطيع أن تتكلم فنظرت إلى أم عادل وهي تشير بعينيها وبيدها إلى سيف وأخته، فقالت أم عادل هذولا عيالي يا أم سيف لا تخافين عليهم أهم شيء الآن صحتك، فاسترخت الأم بعد أن سمعت أم عادل وهي ترفع يديها للسماء، خرجت أم عادل ومعها سيف وأخته، وذهبت بهما إلى منزلها بعد أن أحضروا الكتب وبعض اللوازم من منزلهم، وعادوا جميعاً إلى منزل (أبوعادل). في تمام الساعة الثالثة صباحاً إذ بالهاتف يرن وإذ بهم المستشفى يخبرون أم عادل بأن أم سيف قد توفاها الله، فجعت أم عادل وذهب الجميع إلى المستشفى، أبو عادل وأم عادل وعادل واخته وسيف وأخته وبكى الجميع بكاءً مراً لفراق هذه السيدة الحنون، هذه السيدة الشهمة وهي التي تبرعت بجزء من جسدها، وأكثر من تأثر البنت سارة، مضت الأيام والحزن يخيم على هذه الأسرة، وكان أبوعادل وأم عادل قد قررا أن يأخذا الولد وأخته وأن يعيشا معهم في المنزل، وقد بنى أبوعادل ملحقاً مستقلاً لسيف وأخته داخل الفيلا، وأجر منزلهما وكان يضع الإيجار في حساب مشترك لسيف وأخته، فضلاً عن دعم هذا الحساب بين الحين والآخر، وهكذا رحلت أم سيف وهي مطمئنة على أولادها عند (أبوعادل) هذا الرجل الشهم وزوجته الكريمة، ومما لاشك فيه ان التواصل بين الأسر من خلال الآباء والأمهات له آثار ايجابية في تقويم سلوك الأطفال والاستفادة من تقنية التواصل المذهلة بهذا الخصوص فضلاً عن تعزيز جانب الثقة والاطمئنان.
حمد عبدالرحمن المانع
نقلآ عن جريدة الرياض